فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: ما يغشى من قدرة الله تعالى، وأنواع الصفات التي يخترعها لها.
وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم: ذلك جراد من ذهب كان يغشاها.
وقال مجاهد: ذلك تبدل أغصانها درًّا وياقوتًا.
وروي في الحديث: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبح الله تعالى»: وأيضًا: يغشاها رفرف أخضر، وأيضًا: تغشاها ألوان لا أدري ما هي.
وعن أبي هريرة: يغشاها نور الخلاق.
وعن الحسن: غشيها نور رب العزة فاستنارت.
وعن ابن عباس: غشيها رب العزة، أي أمره، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعًا، فلما غشيها من أمر الله ما غشي، ونظير هذا الإبهام للتعظيم: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، {والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى}.
{ما زاغ البصر}، قال ابن عباس: ما مال هكذا ولا هكذا.
وقال الزمخشري: أي أثبت ما رآه إثباتًا مستيقنًا صحيحًا من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، {وما طغى}: وما جاوز ما أمر برؤيته.
انتهى.
وقال غيره: {وما طغى}: ولا تجاوز المرئي إلى غيره، بل وقع عليه وقوعًا صحيحًا، وهذا تحقيق للأمر، ونفي للريب عنه.
{لقد رأى من أيات ربه الكبرى}، قيل: الكبرى مفعول رأى، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت، وتلك بعض آيات الله.
وقيل: {من آيات} هو في موضع المفعول، والكبرى صفة لآياته ربه، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة، كما في قوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} عند من جعلها صفة لآياتنا.
وقال ابن عباس وابن مسعود: أي رفرف أخضر قد سد الأفق.
وقال ابن زيد: رأى جبريل في الصورة التي هو بها في السماء.
{أفرأيتم}: خطاب لقريش.
ولما قرر الرسالة أولًا، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى، وقفهم على حقارة معبوداتهم، وهي الأوثان، وأنها ليست لها قدرة.
واللات: صنم كانت العرب تعظمه.
قال قتادة: كان بالطائف.
وقال أبو عبيدة وغيره: كان في الكعبة.
وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ.
قال ابن عطية: وقول قتادة أرجح، ويؤيده قوله الشاعر:
وفرت ثقيف إلى لاتها ** بمنقلب الخائب الخاسر

انتهى.
ويمكن الجمع بأن تكون أصنامًا سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه.
والتاء في اللات قيل أصلية، لام الكلمة كالباء من باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء، لأن مادة ليت موجودة.
فإن وجدت مادة من ل وت، جاز أن تكون منقلبة من واو.
وقيل: التاء للتأنيث، ووزنها فعلة من لوى، قيل: لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها: أي يطوفون، حذفت لامها.
وقرأ الجمهور: {اللات} خفيفة التاء؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية: بشدها.
قال ابن عباس: كان هذا رجلًا بسوق عكاظ، يلت السمن والسويق عند صخرة.
وقيل: كان ذلك الرجل من بهز، يلت السويق للحجاج على حجر، فلما مات، عبدوا الحجر الذي كان عنده، إجلالًا لذلك الرجل، وسموه باسمه.
وقيل: سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج.
وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنًا.
وفي التحرير: أنه كان صنمًا تعظمه العرب.
وقيل: حجر ذلك اللات، وسموه باسمه.
وعن ابن جبير: صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها.
وعن مجاهد: شجيرات تعبد ببلادها، انتقل أمرها إلى الصخرة.
انتهى ملخصًا.
وتلخص في اللات، أهو صنم، أو حجر يلت عليه، أو صخرة يلت عندها، أو قبر اللات، أو شجيرات ثم صخرة، أو اللات نفسه، أقوال، والعزى صنم.
وقيل: سموه لغطفان، وأصلها تأنيث الأعز، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها؛ فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبدا» وقال أبو عبيدة: كانت العزى ومناة بالكعبة. انتهى.
ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين: لنا عزى، ولا عزى لكم.
وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف.
وقال قتادة: كانت بنخلة، ويمكن الجمع، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى، كما قلنا في اللات، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه.
{ومناة}: قيل: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وعن ابن عباس: لثقيف.
وقيل: بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة، وكانت أعظم هذه الأوثان قدرًا وأكثرها عددًا، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة، لأن المخاطب بذلك في قوله: {أفرأيتم} هم قريش.
وقرأ الجمهور: {ومناة} مقصورًا، فقيل: وزنها فعلة، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها: أي تراق.
وقرأ ابن كثير: {ومناءة}، بالمد والهمز.
قيل: ووزنها مفعلة، فالألف منقلبة عن واو، نحو: مقالة، والهمزة أصل مشتقة من النوء، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها، والقصر أشهر.
قال جرير:
أزيد مناة توعد بأس تيم ** تأمل أين تاه بك الوعيد

وقال آخر في المد والهمز:
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة ** على النأي فيما بيننا ابن تميم

واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله: {أفرأيتم}، وهي بمعنى أخبرني، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة، لأن قوله: {وله الأنثى} هو في معنى: وله هذه الإناث، فأغنى عن الضمير.
وكانوا يقولون في هذه الأصنام: هي بنات الله، فالمعنى: ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم، وله النوع المذموم بزعمكم؟ وهو المستثقل.
وحسن إبراز الأنثى كونه نصًا في اعتقادهم أنهن إناث، وأنهن بنات الله تعالى، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة، وألف التأنيث في العزى، ما يشعر بالتأنيث، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث، فكان في قوله: {الأنثى} نص على اعتقاد التأنيث فيها.
وحسن ذلك أيضًا كونه جاء فاصلة، إذ لو أتى ضميرًا، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن، لم تقع فاصلة.
وقال الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، فيقول: أخبروني عن آلهتكم، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة؟ انتهى.
فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها، وعلى تقديره يبقى قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} متعلقًا بما قبله من جهة المعنى، لا من جهة المعنى الإعراب، كما قلناه نحن.
ولا يعجبني قول الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، ولو قال: وجه اتصال هذه، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها، لكان الجيد في الأدب، وإن كان يعني هذا المعنى.
وقال ابن عطية: {أفرأيتم} خطاب لقريش، وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد. انتهى.
ويعني بالأجرام: اللات والعزى ومناة، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام، نحو: أرأيت زيدًا ما صنع؟ وقوله: ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني، لم تتعد؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين، أحدهما منصوب، والآخر في الغالب جملة استفهامية.
وقد تكرر لنا الكلام في ذلك، وأوله في سورة الأنعام.
ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه، وهي التي بمعنى أخبرني.
والظاهر أن {الثالثة الأخرى} صفتان لمناة، وهما يفيدان التوكيد.
قيل: ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان، أكدت بهذين الوصفين، كما تقول: رأيت فلانًا وفلانًا، ثم تذكر ثالثًا أجل منهما فتقول: وفلانًا الآخر الذي من شأنه.
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكرم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث

انتهى.
وقول ربيعة مخالف للآية، لأن ثالثًا جاء بعد آخر.
وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان، يكون التأكيد لأجل عظمها.
ألا ترى إلى قوله: ثم تذكر ثالثًا أجل منهما؟ وقال الزمخشري: والأخرى ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى: {قالت أخراهم لأولاهم} أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم.
ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى. انتهى.
ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح، إنما يدلان على معنى غير، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما.
لو قلت: مررت برجل وآخر، لم يدل إلا على معنى غير، لا على ذم ولا على مدح.
وقال أبو البقاء: والأخرى توكيد، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. انتهى.
وقيل: الأخرى صفة للعزى، لأنها ثانية اللات؛ والثانية يقال لها الأخرى، وأخرت لموافقة رؤوس الآي.
وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير تقديره: والعزى الأخرى، ومناة الثالثة الذليلة، وذلك لأن الأولى كانت وثنًا على صورة آدمي، والعزى صورة نبات، ومناة صورة صخرة.
فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد.
فالجماد متأخر، ومناة جماد، فهي في أخريات المراتب.
والإشارة بتلك إلى قسمتهم، وتقديرهم: أن لهم الذكران، ولله تعالى البنات.
وكانو يقولون: إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى.
قال ابن عباس وقتادة: ضيزى: جائرة؛ وسفيان: منقوصة؛ وابن زيد: مخالفة؛ ومجاهد ومقاتل: عوجاء؛ والحسن: غير معتدلة؛ وابن سيرين: غير مستوية، وكلها أقوال متقاربة في المعنى.
وقرأ الجمهور: {ضيزى} من غير همز، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء، كسرت لتصح الياء.
ويجوز أن تكون مصدرًا على وزن فعلى، كذكرى، ووصف به.
وقرأ ابن كثير: {ضئزى} بالهمز، فوجه على أنه مصدر كذكرى.
وقرأ زيد بن علي: {ضيزى} بفتح الضاد وسكون الياء، ويوجه على أنه مصدر، كدعوى وصف به، أو وصف، كسكرى وناقة خرمى.
ويقال: ضوزى بالواو وبالهمز، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي.
وأنشد الأخفش:
فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب ** فسهمك مضؤوز وأنفك راغم

{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}: تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود، وفي سورة الأعراف.
وقرأ الجمهور: {إن يتبعون} بياء الغيبة؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر: بتاء الخطاب، {إلا الظن}: وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة، {وما تهوى}: أي تميل إليه بلذة، وإنما تهوى أبدًا ما هو غير الأفضل، لأنها مجبولة على حب الملاذ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل.
{ولقد جاءهم من ربهم الهدى}: توبيخ لهم، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين، أي يفعلون هذه القبائح؛ والهدى قد جاءهم، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته.
{أم للإنسان ما تمنى}: هو متصل بقوله: {وما تهوى الأنفس}، بل للإنسان، والمراد به الجنس، {ما تمنى}: أي ما تعلقت به أمانيه، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني، بل لله الأمر.
وقولكم: إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى، ليس لكم ذلك.
وقيل: أمنيتهم قولهم: {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} وقيل: قول الوليد بن المغيرة: {لأوتين مالا وولدًا} وقيل: تمنى بعضهم أن يكون النبي.
{فللّه الآخرة والأولى}: أي هو مالكهما، فيعطي منهما ما يشاء، ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله.
وقدّم الآخرة على الأولى، لتأخرها في ذلك، ولكونها فاصلة، فلم يراع الترتيب الوجودي، كقوله: {وإن لنا للآخرة والأولى}. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة: